بعد تعب اليوم بكل ما فيه ..الأولاد ..المذاكره ..أعمال البيت ..وبعد الغداء دخل أبو البنين ليرتاح قليلاً من عناء يومه الطويل ..وطبعاً لكي ينال تلك الراحة كان لزاماًًًًً أن ينام البنين كذلك..إنتهزتها فرصةً لكي أخلو بنفسي قليلاً ..صليت العصر وجلست في ركني المفضل على أريكتي الوثيرة عند النافذة ..نافذتي التي أطل منها على عالمي الذي أعيش فيه ..أطل منها على الشارع الرئيسي الذي يظهر جزء منه بسبب البنايات التي تحجب رؤيته بشكل كامل ولكني أرضى بهذا الجزء وأتفحصه يومياً من خلال نافذتي وكأنني أبحث فيه عن أي جديد ..ولكني لا أرى جديداً فالعمارات العاليه هي نفسها ...والسيارات تمر بسرعة البرق وتبتعد مسرعة لمبتغها ....وقصر عالي الأسوار قابعاً في مكانه في هدوء ممل وطويل....وحتى الأشجار ساكنة لا تتحرك ..حتى أنها لا تحس بوجودي وأنا أتاملها يوماً بعد يوم..وأعد أوراقها وألاحظ ورودها الصغيرة وهي تنمو..نافذتي تلك جلست بجانبها لاستمتع قليلاً بأشعة الشمس التي تدخل بدلال فتداعب عيناي ..وتمنحني جزءاً من الإسترخاء والراحة التي أشتاق إليها ..إستسلمت لخيوط الشمس ورحت في غفوة ..ولا أعلم إن كانت غفوة أم أنها كانت أحلام اليقظة ..ولكني وجدت نفسي في ميدان طلعت حرب في وسط القاهرة الجميلة ..نعم ميدان طلعت حرب ..أخذت نفساً عميقاً..ملء عبق القاهرة حواسي وكل كياني ..تلفت في الميدان ..نعم إنه هو بكل تفاصيله ..فعلى الطرف الآخر من الشارع مكتبة مدبولي التي ترددت عليها مراراً .. ...سرت قليلاً أتفحص الوجوه التي تعطيك إحساساً بالحياة ففي مثل هذا الوقت ..وقت العصاري ..وجدت أماً مع إبنتها ذات العشرين عاماً تشتري لها جهازها ولوازم عرسها من عمر افندي ..وأب يصطحب إبنه لشراء حذاء جديد..وشاب يمسك بيد خطيبته ويعبر بها الشارع وهما يأكلان الآيس كريم ...وكلهم سعادة وأمل ..وطبعاً حب ..تذكرت أول آيس كريم أكلته مع أبو البنين..كان في الأمريكين في شارع 26 يوليو طبعاً كان طعمه غير أي آيس كريم أكلته في حياتي...أجمل بكتير.
سرت في شارع قصر النيل أتطلع إلى الفاترينات المليئة بألوان البضائع ..وبروح الحيوية والصخب ..بروح تجعلك تقف وتشاهد ما تعرضه حتى وإن كنت لا تبتغي الشراء.
وصلت لميدان مصطفى كامل ..تأملته ملياً ..يقف بشموخ ..يحمل بين ملامحه عظمة هؤلاء المصريين ..عظمة توالت حكاياتها عبر السنين والأزمان .
طرت بعدها إلى ميدان عابدين ..سرت أتهادى بين الأشجار والمساحات الخضراء في الميدان ..تذكرت يوم أخذني أبو البنين قبل ولادتي لإبني الأكبر زياد بيوم واحد لنتمشى قليلاً..بناءً على تعليمات الطبيبة المسؤولة عن مجيء الأمير الصغير إلى الحياة..وأخذنا نسير حول الميدان لساعات لم نحس بها ..فاللحظات الجميلة تمر بدون أن نشعر بها..وطبعاًفي اليوم التالي كان الأستاذ زياد منور الدنيا كلهاتركت الميدان وتوجهت إلى شارع بورسعيد..إتجهت يميناً إلى ميدان السيدة زينب....يااااااالله..ماكل هذا الصخب ..أناس تبيع وأناس تشتري ..وسيدة غاضبة من التاكسي الذي لم يقف لها..وفتاة سعيدة بالفستان الذي إشترته لتوها ..ورجل بسيط يدعو على من تسبب في غلاء الأسعار...وعم محمود ذلك الرجل الذي تركت السنون على وجهه عددهاوتركت هموم الدهر آثارها على جسده النحيل وهو يجلس بعدته لكي يمسح للمارة أحذيتهم..ويتكلم مع كل زبون ليسرد له قصة من قصصه أو حكاية حدثت له أيام شبابه.
وبعده بعدة أمتار تجلس الست هدى..كما يناديها أهل المنطقة تبيع الجرائد منذ توفي زوجها وهي في الثلاثينيات من عمرها..لتربي أحمد الذي تخرج من كلية التجارة وصفاء التي تخرجت من كلية الآداب..إنها قصص كفاح تذخر بها شوارع وأحياء القاهرة.
سرت في شارع بورسعيد الطويل في إتجاه حي الحسين..فأنا أعشق هذا الحي بكل عراقته وقدمه وآثاره التي تنطق بكل ما مر على القاهرة من أحداث ومن أناس عاشوا في مصر وأحبوها وعملوا من أجلها ...إنه حب كل من
شرب من نيل هذا البلد..وعاش على ترابه.
كان الوقت قد شارف على المغيب..والشمس تستعد لترحل وراء الأفق ..وبدأت الأنوار تتلألأ في حي الحسين ..سرت في شوارعه الضيقه التي تحيط بمسجد الحسين أتلمس عبق الماضي ..سمعت أصوات زغاريد توجهت إليها ..إنها فرحة أهل بشراء شبكة إبنتهم ..يا لها من فرحة ..أما العريس فله الله.
وصلت إلى مطاعم الكباب التي تشتهر بها المنطقه ....هلت عليَ روائح رمضان ...وقت أن كان والدي يصطحبنا لتناول الإفطار في أحد تلك المطاعم ..في جو من السعادة الغامرة ...فوالدي أيضاً يشاركني حب هذا الحي لإرتباطه به طوال أيام دراسته في الأزهر الشريف..
وأياً كان سبب إرتباطنا بالأماكن فجميعنا نشترك في حنيننا إليها ورجوعنا لها من حين لآخر..حتى غير المسلمين من السياح الأجانب تعرف في وجوههم عشقاً كبيراً لهذا المكان...وحباً للرجوع إليه ..وإذا تحدثت مع أحدهم أخبرك عن ذكرياته هنا منذ عدة سنوات ورجوعه مرة أخرى..فما سر هذا المكان..!!!
أخذت أتجول حول المسجد ....ماذا أرى..؟..سيدة عجوز تمشي بصعوبة جاءت من بلد بعيد عن القاهرة لتزور الحسين..ولتدعو الله أن يشفي ولدها ...أسرعت إليها أخذت بيدها وأوصلتها لمبتغاها...توقفت برهة قبل دخولها المسجد ورفعت رأسها إلى السماء وأخذت تدعو لي أن يحفظني الله ويبارك لي في أولادي ...وظلت تدعو حتى أحسست بشفاهٍ صغيرة تطبع قبلة جميلة على وجهي ..أفقت فإذا به آخر العنقود رامز قد إستيقظ من نومه وأراد أن يوقظني لألعب معه...قمت معه ولازالت دعوات السيدة العجوز في أذني ...ولازال عبق القاهرة يملء روحي وكياني..وقبل رحيلي من ركني إلتفت إلى النافذة ونظرت من خلالها فوجدت السكون والهدوء يلف المكان ولا مكان للروح هنا.