قررت أن أركب الميكروباص المتجه من آخر شارع فيصل حيث منزل والدي والمتجه إلى الجيزة وبعدها أكمل إلى القصر العيني.
وقفت لاشير لاول ميكروباص ..وعندما وصل إلي سألني إلى أين ..قلت :الجيزة ..ولكنه فر مسرعاً ..
عجباً ...إن الميكروباص مكتوب عليه بالخط العريض (الجيزة -آخر فيصل ) فلماذا تركني ..ولم يقف ..!!
أشرت لمن بعده ..وحين قلت ..الجيزة ..فر هو أيضأ مسرعاً مثل صاحبه .
وظللت على حالي هذا ...يمر عليَ الميكروباص تلو الآخر ..ويرفضون الوقوف لي وكأن الذهاب للجيزة محرم اليوم ..أو كأنهم متجهين لمكان آخر ..ولكن البادج الموجود عليهم جميعاً يشير إلى أن إتجاهم الجيزة ..
وظللت على حيرتي هذه ..ووسوست لي نفسي بركوب أول تاكسي يمر بي ولا داعي للذوبان مع الناس اليوم ..
ولكن لاح لي ميكروباص ياتي مسرعاً من بعيد وكأنه في سباق مع الزمن ..قلت لنفسي أجرب لآخر مرة
وصل الميكروباص واقترب مني ..نظرت في وجه سائقه الذي لا يزال عليه آثار النوم ..كان ينظر إلي ببلاهة شديدة وكأنه يتساءل ..إلى أين ..؟
وهنا طرق على بالي لأن أساله أنا ..إلى أين انت متجه ؟
ردَ عليَ وكأني أتساءل عن شيء من البديهيات : الطالبيه
قلت لنفسي : الطالبيه ..الطالبيه
وركبت ..ركبت وانا لا أفهم لماذا يكون خط سيره للجيزة ولكنه يذهب لمحطة الطالبية فقط ..
سألته عن الاجرة ...ردَ عليَ بنفاذ صبر وكان السؤال تكرر عليه كثيراً ..خمسة وسبعون قرشاَ يا أختي
ناولته الأجرة وكلي حيرة من تصرفاته ومن خط سيره الذي لا يكمله ..
ولكن حيرتي لم تدم طويلاَ ..فما هي إلا دقائق وركب راكب ضخم الجثة يحمل حقيبته المكتظة بالأوراق ..لعله محامي ..
جلس بعد معاناة من طلوعه للميكروباص ..وما إن إستقر مكانه ووضع حقيبته على ساقيه ..حتى سال السائق : الجيزة يا أسطى ؟
عجباً له يركب ثم يسأل ..لعله عانى مما عانيت منه من إنتظار فقرر الركوب والذهاب إلى أي مكان يقرره سائقي الميكروباص الكرام ..
رد السائق : كلا الطالبيه فقط يا استاذ .
مد الرجل الضخم يده بخمسين قرشاً للسائق ..وقد رضيَ أن يوصله السائق للطالبيه فقط ..
ردها السائق له حانقاً : الاجرة خمسة وسبعون قرشاً يا أستاذ .
وهنا إنفتح الرجل بسيل من الإعتراضات : خمسة وسبعون قرشاً للطالبية بعد أن كانت الأجرة خمسون قرشاً للجيزة ..أنتم مافيا ..إتقوا الله في الناس ..ماذا ستفعلون بهم ..؟؟؟
رد رجل آخر كان يجلس مستكيناً في آخر الميكروباص ..ولكنه خرج من إستكانته ..قائلاً : يا سيدي الفاضل إنهم يقسمون الطريق لإستغلالنا ولزيادة ارباحهم .....إنهم يأكلون الحرام ..
آه فهمت الآن ..لماذا كان كل سائقي الميكروباص يهربون ..ولماذا هذا السائق يذهب للطالبية فقط دون الجيزة ..كنت سأموت كمداً إن لم أفهم ..
وحانت مني نظرة إلى السائق لأرى رد فعله لما يسمعه من سباب الناس له ...فرأيت وجهاَ عابساً ينظر إلى الطريق وكأنه لا يسمع شيئاً مما يدور خلفه ..وكل ما يعنيه هو أن يدفع الناس الخمسة وسبعون قرشاً اللعينه ..
نظرت من نافذتي لعلي أستنشق بعض الهواء البارد ..وجدت أننا لم نتحرك كثيراً ..فالشارع مكدس بالسيارات التي تتحرك ببطىء شديد ..
وقعت عيني على إحدى الفاترينات ...ما هذا ..سعر البلوزة ..مئة وخمسون جنيهاً ..وسعر الجيبة مئة وعشرون جنيهاً...!!!
حضر إلى ذهني ذلك الموظف المسكين الذي يعول خمس بنات كلهن في مراحل مختلفة من التعليم ..إذا أراد أن يشتري لكل منهن ما تحفظ به ما وجهها إذا خرجت من البيت ..فكم سيدفع ؟!!!..له الله .
تنبهت على صوت إمرأة مسنة يبدو عليها الإجهاد من طول الإنتظار وهي تتمتم ببعض الكلمات ...مددت يدي إليها لتركب وأخذت ما معها من حقائب ..ركبت وجلست بجانبي وهي تلهث ..يبدو أنها عانت مما عانيت منه ..من رفض السائقين الوقوف لها ..ويبدو أيضأً أنها لم تعرف بزيادة الأجرة ..حيث أخرجت الخمسون قرشاً ومدت يدها بها إلى السائق الذي زفر أنفاسه قائلاً : الاجرة خمسة وسبعون قرشاً يا حاجَه ..
ولكن الحاجَه لم يعجبها ذلك وظلت تناقشه وتسأله عما يريدون أن يفعلوا بالناس ..ولم كلما غلى سعر شيء في البلد يزيدون هم أجرتهم ..
أما السائق فكان ينظر إلى اللاشيء ..وكأنه يعلم مسبقاً أنها سوف تخرج ما في جعبتها ثم تدفع له الأجرة الجديدة ..
من الواضح أن هذا هو حال الناس ..
نظرت من نافذتي مرة اخرى لعلنا نكون قد قطعنا مسافة أكبر ولكننا ما زلنا في ذلك الزحام ..وأمامنا تلك السيارات التي لا تريد أن تتحرك وكانها نائمة في سبات عميق ..
على الجانب الآخر من الشارع ماذا أرى ....!!! طفل صغير لم يتجاوز السادسة من عمره يقف لينتظر عربة المدرسة هو وأخته وفي يده موبايل يتكلم فيه ويضحك ..عجباً مع من يتكلم هذا الصغير ومع من يضحك ..وهل هناك ما يستدعي أن يمتلك هذا الصغير موبايل ..
تذكرت إبني زياد ..فهو يريد أن نشتري له موبايل بكاميرا ولكننا رفضنا ذلك رفضاً قاطعاً فليس في سن يسمح بذلك وليس في حاجة ملحة له ....آه لو كان معي لاعطاني درساً في تنفيذ رغبات الأبناء ..الحمد لله أنه لم يكن معي .
وفي تلك اللحظة صعد للميكروباص طفل في الثالثة عشر من عمره ..يبدو على وجهه ملامح الذكاء ..والإقبال على الحياة ..يحمل حقيبته ليذهب إلى مدرسته ..فتح الباب وجلس بجانب السائق الذي لم يفق من غيبوبته بعد ...وعندما علم أن السائق لن يتجه إلى الجيزة حيث مدرسته وأنه سيوصله فقط إلى محطة الطالبية ..تساءل ببراءة الاطفال : ولم تفعلون ذلك ..لماذا تقسمون الطريق..؟؟